تركيا والولايات المتحدة- مكاسب متبادلة وعلاقات متوازنة في المستقبل

المؤلف: صالحة علام11.19.2025
تركيا والولايات المتحدة- مكاسب متبادلة وعلاقات متوازنة في المستقبل

في أعقاب موافقة البرلمان التركي على انضمام السويد إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو)، تصاعدت بقوة التساؤلات حول مستقبل العلاقات التركية الأمريكية. الإعلانات والتصريحات الصادرة عن الجانب الأمريكي حملت في طياتها إشارات إيجابية، تنبئ بطي صفحة الخلافات التي شابَت العلاقة بين البلدين، وتفتح الباب أمام مرحلة جديدة من التقارب والتعاون في العديد من القضايا العالقة. هذا التحول يأتي بعد فترة شهدت فيها العلاقات التركية الأمريكية تراجعًا ملحوظًا، ربما هو الأدنى منذ عقود.

مكاسب متباينة

المكاسب التي جنتها تركيا من موافقتها على انضمام السويد إلى الناتو تتجاوز مجرد تعزيز علاقاتها مع الاتحاد الأوروبي وتأكيد التزامها تجاه الحلف. لقد أثبتت تركيا قدرتها على تحقيق مصالحها في ظل تحولات جيوسياسية معقدة، ونجحت في إرضاء رغبة دول الحلف في تشكيل جبهة موحدة ضد روسيا، على الرغم من الروابط الوثيقة والمصالح المتبادلة التي تربطها بموسكو.

من بين الإنجازات الملموسة التي حققتها تركيا، إجبار السويد على إجراء تعديلات دستورية جوهرية، وإقرار قوانين صارمة لمكافحة الإرهاب. كما نجحت أنقرة في الضغط على ستوكهولم لإلغاء الجنسيات الممنوحة لعدد من العناصر المرتبطة بحزب العمال الكردستاني، وهم مطلوبون من قبل القضاء التركي. بالإضافة إلى ذلك، قامت السويد بتجميد ومصادرة الأصول المالية لتلك العناصر في البنوك السويدية، والحد من أنشطتهم التي تستهدف الدولة التركية ورموزها السياسية.

إلى جانب تلك المكاسب، رفعت السويد الحظر المفروض على تصدير الأسلحة إلى تركيا، اقتداءً بها، اتخذت هولندا خطوة مماثلة، تبعتهما مؤخرًا كندا، التي أعلنت عن إزالة كافة القيود التي كانت تعيق صفقات بيع الأسلحة الكندية لتركيا منذ عام 2020. هذا التحول يعكس اعترافًا متزايدًا بأهمية الدور التركي في المنطقة، وضرورة دعم قدراتها الدفاعية.

عضوية السويد

تجاوز السويد للعقبة التركية في طريق الحصول على عضوية الناتو، جاء كنتيجة لصفقة تبادل مصالح فرضتها الولايات المتحدة على تركيا. بموجب هذه الصفقة، وافقت واشنطن على بيع أنقرة 40 طائرة من طراز "إف- 16" المطورة، في صفقة تقدر قيمتها بنحو 23 مليار دولار. بالإضافة إلى ذلك، ستحصل تركيا على حوالي 80 مجموعة من قطع الغيار لتحديث أسطولها الجوي، بصفقة تبلغ قيمتها 20 مليار دولار.

أعلن البيت الأبيض رسميًا عن نيته إبلاغ الكونغرس بعزمه على إتمام صفقة بيع الطائرات الحربية لتركيا، وذلك عقب تصديق الرئيس التركي على مذكرة البرلمان المتعلقة بانضمام السويد إلى الناتو. هذا الإعلان يمثل وفاءً بالالتزام الأمريكي تجاه تركيا، وإشارة واضحة إلى جدية واشنطن في تعزيز التعاون العسكري مع أنقرة.

على الرغم من ذلك، تشير التصريحات الصادرة عن بعض المسؤولين في البيت الأبيض، والخطوات اللاحقة، إلى أن العلاقات بين البلدين قد تتجه نحو مسار مختلف عما هو عليه الآن. هناك مؤشرات قوية على إمكانية عودة التعاون الثنائي في العديد من الملفات والقضايا الإقليمية والدولية ذات الاهتمام المشترك، مثل الملفات الليبية والسورية والعراقية، وهو ما قد يمنح أنقرة مكاسب جمة طالما سعت إليها، لكن واشنطن أعاقتها في السابق.

الانسحاب من سوريا والعراق

تواترت مؤخرًا تسريبات متعددة تشير إلى رغبة لدى الولايات المتحدة في سحب قواتها المتواجدة في شمال العراق (حوالي 2500 جندي) وشرق سوريا (حوالي 900 جندي). هذه الرغبة تتلاقى مع رؤية تركيا للوجود العسكري الأمريكي في كلا البلدين.

أفاد العديد من المسؤولين الأمريكيين بوجود مناقشات جادة ومكثفة تجري داخل أروقة البيت الأبيض لبحث كيفية وتوقيت الانسحاب من الأراضي السورية والعراقية. هناك قناعة متزايدة لدى مسؤولين في الإدارة الأمريكية ومقربين من الرئيس جو بايدن بأن الاستمرار العسكري الأمريكي في كلا البلدين لم يعد ضروريًا.

على الرغم من نفي الخارجية الأمريكية لهذه التسريبات، وتأكيدها على عدم وجود توجه مماثل لدى واشنطن، وإصرارها على استمرار التواجد الأمريكي في المنطقة، حفاظًا على مصالح أمريكا وحلفائها، يظل الحديث عن سحب القوات الأمريكية من المنطقة في هذا التوقيت أمرًا منطقيًا، خاصة بالنظر إلى الموقف الصامت الذي تتخذه واشنطن تجاه العمليات العسكرية التركية في شمال سوريا والعراق.

وتحديدًا في المناطق التي تتمركز فيها القوات الأمريكية، وعدم اتخاذها أي رد فعل يشير إلى رفضها لهذه العمليات أو المطالبة بوقفها. هذا بالإضافة إلى الهجمات التي تعرضت لها القوات الأمريكية على الأرض في البلدين، والخسائر التي تكبدتها في الأرواح والمعدات، وحجم الإخفاقات التي واجهتها، وفشل الإدارة الأمريكية في تحقيق الأهداف التي سعت إليها من خلال تواجدها على الأرض هناك.

كما أن هذا التواجد العسكري يواجه معارضة قوية من جانب المسؤولين في كل من بغداد ودمشق، الذين يعتبرونه احتلالًا لأراضيهم، ومن جانب كل من تركيا وروسيا وإيران. بالإضافة إلى ذلك، يتصاعد التوتر في البحر الأحمر والأراضي الفلسطينية، مما يزيد من الضغوط على واشنطن لإعادة تقييم استراتيجيتها في المنطقة.

بثّ الطمأنينة

يبدو أن نفي الخارجية الأمريكية يأتي في إطار محاولات لزرع الثقة والطمأنينة في نفوس قوات وحدات حماية الشعب الكردية وعناصر حزب العمال الكردستاني، وهم شركاء واشنطن في المنطقة. الرسالة التي تسعى واشنطن إلى إيصالها هي أنها لن تتخلى عنهم، ولن تتركهم فريسة سهلة لأنقرة وطهران، كما حدث في الماضي.

في هذا السياق، تأتي تصريحات وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن حول استمرار خطر تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في الكثير من المناطق، وأن الحرب ضده لا تزال مستمرة. هذه التصريحات تهدف إلى التأكيد على أن تحالف بلاده مع تلك القوات لا يزال قائمًا، وأن دورهم لم ينتهِ، وأن واشنطن ماضية قدمًا في التعاون معهم، على الرغم من محاولات الوقيعة بينهما.

إن انسحاب القوات الأمريكية من العراق وسوريا يعني تلقائيًا وقف الدعم العسكري واللوجستي عن عناصر حزب العمال الكردستاني وقوات حماية الشعب، وإخراجهم من تحت مظلة الحماية الأمريكية. هذا الأمر سيصب حتمًا في صالح تركيا، ويمنحها القدرة على إعادة ترتيب الأوضاع في المنطقة بالتوافق مع قيادات البلدين في سوريا والعراق، بالإضافة إلى روسيا وإيران، بما يضمن لها حماية حدودها والحفاظ على أمنها القومي.

تركيا واليونان

من بين المكاسب الأخرى التي حققتها أنقرة نتيجة للإيجابية الأمريكية تجاهها، سعي واشنطن لتلطيف الأجواء بين تركيا واليونان، بوصفهما حليفتين مقربتين، ودفعهما للعودة إلى طاولة المفاوضات لحل خلافاتهما وإزالة التوتر بينهما. هذا المسعى أسفر عن إعلان أثينا موافقتها على إتمام صفقة طائرات "إف-16" لتركيا، بعد أن كانت تعارضها بشدة وتسعى لعرقلتها في الكونغرس.

صحيح أن اليونان حصلت من واشنطن في المقابل على 40 طائرة من طراز "إف – 35" بقيمة 8 مليارات دولار، لكن قبولها بتزويد جارتها بطائرات "إف-16" المحدثة، دون إثارة المخاوف بشأن تعزيز القدرات العسكرية التركية، ساهم في تلقي أنقرة تصريحات رئيس وزرائها كيرياكوس ميتسوتاكيس بارتياح بالغ.

إذ أكد ميتسوتاكيس على رغبته في تعزيز الأجواء الإيجابية السائدة حاليًا بين بلاده وتركيا، في أعقاب الدعم الذي قدمته أثينا لجارتها أثناء كارثة الزلزال الذي ضرب جنوب تركيا في فبراير/شباط من العام الماضي. وأشاد، وللمرة الأولى، بالصناعات الدفاعية التركية وبقدراتها العسكرية غير المسبوقة، معربًا عن رغبته في إيجاد آلية للتعاون بينهما في هذا المجال. وأكد عزمه على زيارة أنقرة في شهر مايو/أيار المقبل.

كما أعرب عن تفاؤله بشأن إمكانية التوصل إلى حل لمسألة تحديد الصلاحيات البحرية العالقة بين البلدين، والتي تعد من أهم القضايا الخلافية التي تعيق تقدم العلاقات بينهما.

تطورات إيجابية على صعيد العديد من الملفات، ومكاسب متتالية، تؤكد أن المرحلة المقبلة ستشهد تحسنًا مطردًا في العلاقات بين أنقرة وواشنطن. لكن اللافت في هذا التقارب هو أنه لن يكون وفقًا لمنطق التابع والمتبوع الذي كانت تريده واشنطن في السابق، بل سيقوم على أساس رؤية تركية تستند إلى المساواة والشراكة، تحكمها المصالح المشتركة لكل من الطرفين، دون إملاءات أو شروط مسبقة.

 

 

 

 

 

 

 

 

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة